29 مارس,2024

الحصاحيصا نت

موقع ومنتديات الحصاحيصا

تاريخ الغناء والموسيقى في السودان

1378834220

بقلم: موسى حامد
كاتب وصحفى

ما يُميّزُ كتاب “من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان”، بجُزئيه الإثنين، لـ معاوية حسن يس، تقصيّه تاريخ الغناء والموسيقى في السودان منذ أقدم عصوره، وحتى الآن، بالأكاديميةِ، والرصد، والتحليل، وجمع المعلومات من مظانّها، وتوثيقها، بالقدر الذي لم يتأتَ للذين انتدبوا أنفسهم لتوثيق الأغنية السودانية والكتابة عنها.

الجزء الأول من هذا الكتاب؛ صدر في العام 2005م، وفيه تتبّعٌ للمنابع الأولى للأغنية السودانية، وحتى ظهور ما عُرف بـ (أغنية الحقيبة)، وإنشاء الإذاعة السودانية في العام 1940م.

أما الجزء الثاني، وهو ما نحن بصدد الكتابة عنه الآن؛ صدر أواخر العام الفائت، 2012م. فينطلق من التاريخ الذي انتهى إليه الجزء الأول “العام 1940″، ويمسح بالتوثيق والمتابعة والتأرخةِ؛ الفترة التي ما بعده، وصولاً إلى نهاية الألفية الثانية، وتحديداً العام “1999م”. والجُزآن صدرا عن “مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي”.

امتداد حميد
الكتاب، بصفحاته الـ “614”، ذات القطع الكبير، امتدادٌ حميدٌ، لكُتب، ومخطوطاتٍ، وكُرّاساتٍ أكاديميةٍ، كُتبتْ، أو صدرت من قبل، تُوثّق للأغنية والموسيقى في السودان، أمثال: الفاتح الطاهر، وجمعة جابر البشاري، ونحويهما. إلا أنّ الأثر الذي جاء به معاوية هو التوسُّع، والرصد، ودقة المتابعة، والتأريخ المأخوذ بالسند. حداً أصدر من ذات عنوانه جزأين، والثالث في الطريق. وهو ما لم يتأت للنماذج سالفة الذكر. هذا بالإضافة إلى كم الوثائق، والمعلومات، والصور النادرة، التي انفرد بنشرها في كتابيه. هيأتها له أسفاره الكثيرة خارج السودان، وعلاقاته بالوسط الفني، وعمله لفترة في وسائل الإعلام العربية، أو في العالم الغربي. يُضاف إلى ذلك، وقبله، شغفٌ ذاتي بفن الغناء، وأهله.

معاوية يس من أنصار الاعتراف بتأثر الأغنية السودانية بتيارات عديدة، ويُثبتْ أنها استقت، وتأثرت، وأخذت من العربية والإفريقية، لكنها استطاعت أنْ تُشكّل من بعد، فرادتها، وتميزها، وسودانيتها التي تخصها. وفي هذا، يُشير الكاتب إلى التأثير الكبير الذي أحدثته الموسيقى، والغناء المصري، على موسيقى وغناء السودان؛ إلا أنّ الأخير لم يمكثْ في قبضة التأثيرات هذه كثيراً، إذْ سريعاً ما خطّ لنفسه طريقه. معتمداً على طرائقه الفنية التي تخصه، في المديح، والموالد الدينية، والمناحات، والحكّامات، وأعمال الهدايّين، وأغنيات الحروب، والحصاد، وغيرها.

غناء جنوبي
في كتابه “من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان”، تجاوز معاوية يس الأوروبيين في وصفهم لغناء وموسيقى قبائل ومجتمعات جنوب السودان بـ “المتخلّفة”، و”البُدائية”، و”الهمجية”، وصولاً إلى مساهمتها وإثرائها للموسيقى القومية السودانية، من خلال فرق الجاز، أو من خلال الألحان الجهوية التراثية التي تم تحويلها إلى ألحان سير، ومارشات للفرق العسكرية.

لكن بالرغم من ذلك لم يتجاوز ذكره أسماء مغنين وفنانين أو موسيقيين جنوبيين مثل: عبدالله دينق، يوسف فتاكي، جون براون، استيفن دينق، وموسس نبيل. بمعنى أنّ سيرهم الفنية وتجاربهم وأغنياتهم لم تجد الذكر والتوثيق المستحق. ربما كان الأمر مرده لعامل الحرب البغيضة التي أوقفت الحياة السودانية بكاملها، وليست الغناء والموسيقى لوحدهما. أو ربما لعامل لغات تلك المجتمعات، التي أصرّ أن يتغنى بها فنانو تلك المجتمعات، أو آلاتهم الموسيقية التي لم تعتد أذن بقية أقاليم السودان عليها، أو ربما لعوامل أخرى.

دينٌ وسياسة
في العلاقة بين فنّي الغناء والموسيقى والسياسة، تقصّى مؤلف الكتاب حالات التشادُّدِ، والتصالح التي مرت بها طبيعة علاقة الغناء والسياسة في السودان.

وأثبت المؤلف خلال تقصّيه، تعامل الحكومات التي مرت على السودان، بطريقةٍ مشرقةٍ، أو ظلاميةٍ مع الفنون. وعَبر على منع حكومة إبراهيم عبّود (نوفمبر 1958- أكتوبر 1964م)، لبعض الأغنيات، كما أثبت لحكومة نميري (مايو 1969- أبريل 1985م)، في بدايتها انفتاحاً كبيراً وتعاملاً إيجابياً مع الغناء، ثم لم يلبث هذا الوضع أن تغيّر عقب ما عُرف في السياسة السودانية بـ “قوانين سبتمبر” 1983م.

وفي هذه النسخة المايوية؛ يورد المؤلف أنّ النميري أوفد بعض موظفيه لحصر الأغنيات التي في كلماتها ألفاظ مثل: قُبلة، أحضان، خمر، وغيرهم. ويخلص المؤلف إلى أنّ نتيجة هذا الحصر أنْ منعت حكومة النميري أغنيات مثل “القبلة السكرى”، لعثمان حسين.

إلا أنّ أخطر ما شهدته الساحة الفنية –على رأي المؤلف- ما حدث في الفترة التي تلت وقوع انقلاب يونيو 1989م، من منعٍ ومحاصرةٍ للغناء في السودان، حيث كانت حجة حكومة الإنقاذ في بداياتها؛ أنّ التحديات التي تُواجه البلاد تستدعي إتاحة الفرصة أمام ما سُمي “أدباً جهادياً”، بل وصل الأمر حد إيقاف تسجيل أغنيات عاطفية، أو بثها، وإيقاف بث أغنيات فنانين بعينهم، بحجة معارضتهم للحكومة وقتها.

لكن بالمقابل، فقد شهدت ساحات التفكير نزالات فكرية فقهيةٍ عن الغناء والموسيقى. وكمثالٍ، يذكر المؤلف ما شنّته مجلة الإذاعة والتلفزيون في “1966”، من هجومٍ على ما أسمته “الخمريات عند الشعراء”، ناعيةً على بعض الشعراء الغنائيين السودانيين، “إسماعيل خورشيد نموذجاً”، نقلهم أجواء خمرية وتفسّخيةٍ في أغنياتهم.

إهمال وغُربة
يقطع مؤلف الكتاب بأنّ الكثير من التراث الغنائي، والموسيقي السوداني، تعرّض للضياع، لجملةٍ من الأسباب. أجملها في الإهمال واللا اهتمام، كان ذلك عن طريق الأسطوانات، والأشرطة التي تحوي أغنيات وموسيقى، حيث تعرّض الكثير منها للضياع، أو للتلف، نتيجة البلى الطبيعي بفعل تقادم الزمن، وعدم الحفظ وفق عوامل علمية. كما أشار المؤلف إلى أنّ العديد من تراثنا الغنائي والموسيقي السوداني موزّعٌ في المكتبات الخارجية، والإذاعات الأجنبية، مثل

: ركن السودان بالقاهرة، والذي تحوّل من بعد إلى إذاعة وادي النيل، أو بمكتبة إذاعة إريتريا، أو بالإذاعة البريطانية، “البي بي سي”.

يورد المؤلف كل هذه المعلومات، وهو يتكيءُ على زيارات قام بها لهذه البلدان، ساعياً لتوثيق للأغنية السودانية في بلدانٍ مثل: إريتريا، التي زار إذاعتها، ومصر التي زار شركات إنتاج اسطواناتها، أو الإرشيف الصوتي للمتحف البريطاني.

فنّانون منسيّون
الكتاب أفرد باباً كاملاً للعديد من الأصوات الغنائية السودانية المنسيّة، بالرغم من مساهمتها الكبيرة والنوعية الواضحة في مجال الغناء السوداني. حيث يذكر المؤلف من الفنانين المنسيين: التيجاني مختار، محمد الحويج، “الذي كان يُشكّل مع السُنّي الضوّي وإبراهيم أبو ديّة ما عُرف وقتها بـ “ثلاثي العاصمة”. حسن سليمان الهاوي، الطيب سمسم، أحمد عبد الرازق، “الذي اشتهر بدويتو (الريدة.. الريدة) بصُحبة عائشة الفلاتية، وعمر أحمد، صاحب “كان بدري عليك”، وغير هؤلاء الكثير.

ما دفع بالمؤلف أنْ يُفرد باباً في كتابه لهؤلاء الفنانين المنسيين؛ بجانب التوثيق لهم، والاعتراف بقيمتهم وأثرهم الفني بالطبع؛ هو الدفع إلى الضوء بهذه الأسماء، والمساهمة بالتذكير بها، وعدم نسيانها. أما الأمر الآخر على قوله هو:

“افتتان أجيال بأصواتٍ لمعتْ في زمانها، وظهرت في دنيا الغناء، متكئةً على تلك الأغنيات الخالدة، جعل كثيرين يعتقدون بأنّ هؤلاء هم أصحاب تلك الأغنيات، غير مدركين من هم أصحابها الحقيقيون”.

وكمثال أغنية: “في سبيل نظرة من عيونك”، والتي اشتهر بها الفنان حمد الريح، وهي في الأصل للفنان “المنسي” الأمين علي سليمان. وأغنية “ملك الطيور”، التي أشتهر بها الفنان أحمد الجابري، لكنها في الأصل للفنان “المنسي” عمر أحمد. وأخيراً “سمسم القضارف”، وهي في الأصل تُراث، أخضعها الفنان المنسي “الطيب سمسم” للمعالجات اللحنية والكلامية، وهو ما ألصق به اسم “سمسم”، لظهوره بها، وكثرة ترداده لها، لكن المفارقة أنّ عائشة الفلاتية هي من اشتهر بها بعد تسجيلها لها في الإذاعة.

إشراقات وعيوب
ما تميّز به كتاب “من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان”، في جزئيه الإثنين، المسرد التاريخي، و”ببلوغرافيا” الأحداث المهمة في تاريخ الغناء السوداني، وإيراده تواريخ ميلاد ووفاة العديد من رموز الغناء السوداني، ولا غنى لأي هاوٍ أو متخصصٍ في مجال الغناء والموسيقى في السودان عن هذا الكتاب. حيث يبدأ “مسرد التاريخ الغنائي والموسيقى السوداني”، منذ العام 1884م، وهو تاريخ دخول آلات الطبول والأبواق السودان، وليس انتهاءً بـ “فبراير من العام 2012م”، وهو تاريخ رحيل فنان السودان الكبير محمد وردي.

لكن بعض ما يُؤخذ على الكتاب، الذائقة الشخصية التي سيطرت عليه في أكثر من مكان، بالإضافة إلى اعتماده لبعض المرويات فطيرة السند، مثل حديثه عن أنّ السبب وراء انضمام الفنان مصطفى سيد أحمد ضمن عضوية الحزب الشيوعي السوداني، كان حوجته له في مرضه الأخير. وأخيراً، عدم تطرُّق المؤلف لفنانين كانوا ملء السمع والبصر ومنهم عثمان حسين، حسن عطية، خليل إسماعيل، إبراهيم موسى أبّا، وغيرهم. بالرغم من أنّ هذا الجزء بالذات يؤرخ للفترة من الاربعينيات وحتى نهاية الالفية الثانية.