عرض مشاركة واحدة
قديم 05-11-2013, 01:58 PM   #2


الصورة الرمزية محمد عوض السيد
محمد عوض السيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7563
 تاريخ التسجيل :  Nov 2010
 أخر زيارة : 02-27-2014 (10:00 PM)
 المشاركات : 1,858 [ + ]
 التقييم :  41
 الدولهـ
Sudan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue
افتراضي



حتى شقيقتها هيمافاتي كانت تستعرض ثيابها الحريرية الغالية عندما تعود في عطلة زوجها من بنغالور.. ذات مرة سمع جوبيناث زوجته ليلافاتي تقول لأختها:
- الساري الحرير هو أرقى أنواع الثياب. أما ثياب هذه الأيام المصنوعة من الشيفون والنيلون والسلك الخفيف لا تتحمل شيئاً.
ومنذئذٍ زاد إصرار جوبيناث على تحقيق رغبة زوجته التي ترفض أن تبوح له بها.
ببساطته وطيبته وهدوئه وتحفظه، مضى جوبيناث براساد يناضل ويكافح في حياته معلماً في المدرسة الابتدائية. يقول بعض الناس إنه يساوي وزنه ذهباً، إذ لم يحدث أن رسب تلميذ تلقى تعليمه على يديه، خصوصاً الذين درَّسهم التاريخ واللغة، وهما المادتان اللتان تخصَّص في تدريسهما للصف السادس منذ تعيينه معلماً.
بسلحفائية زاد مرتبه من 35 روبية إلى 350 روبية شهرياً. لكنّ أسلوب معيشتهما لم يتغيَّر كثير شيء.. الشيء الوحيد الذي تغيّر أنه صار لديهما الآن جهاز راديو أهدته لهما ابنتهما كوسوما.
مرات عدة خلال هذه السنوات الخمس والعشرين، سرق جوبيناث خطواته إلى دكان الثياب الحريرية، حيث تجلس النساء الميسورات ساعات طوال ينتقين من أفخر وأكثر أصناف الحريير نعومة. وكان صاحب الحانوت كثيراً ما يغدق عليهن الكلمات الطاعمة، ويسرف في تقديم أكواب الشاي إلبهنّ، وهو يعلم أن النساء اللاتي تحمل كل وأحدة منهن محفظة مملوءة بالمال لن يقاومن إغراء هذه الثياب الفاخرة.
لكن جوبيناث يعلم أنه لن يستطيع شراء أبخس هذه الثياب.. ومع هذا، فهو كلما وقعت عينيه على ثوب منها طفق يستحضر في مخيلته صورة زوجته ليلافاتي وهي ترتديه.. ويراها تتحول من المرأة البسيطة التي عرفها ربع قرن من الزمان إلى سيدة جميلة للغاية تلتف حول هذا الساري أو ذاك، وتحيط معصمها بالأسورة الذهبية، وعلى شعرها تقبع زهرة ياسمين جميلة.
قبل خمس سنوات، أكملت ابنتهما كوسوما دراستها في قسم التدبير المنزلي في الجامعة، وبدأ التحضير لزواجها. بمنتهى الحرص والدقة وضع جوبيناث مائة وخمسين روبية بعيداً عن متناول اليد، لأنها تعادل قيمة الساري الحريري الأزرق المنمَّق بنقش ذيل الطاووس. وظلت صورة زوجته وهي ترتدي هذا الثوب الساحر تطارد مخيلته، وهي تقف خلف ابنتها العروس في حفل زفافها. لكن تكاليف الحفل تضاعفت عمّا تصوّر، ومرة أخرى اضطر لإرجاء فكرة الساري الحريري.
ومنذ عام واحد، نجح ابنهما براباكار في اجتياز الامتحان النهائي في كلية الهندسة، وتزوّج.. لكن ليلافاتي ارتدت مرة أخرى ثوبيها الأخضر والأحمر! وكان جوبيناث يرقبها وهي تخطو وسط أفواج الضيوف بذات الكبرياء والجمال، رغماً عن أن ثوبها قديم أكل عليه الدهر وشرب. ومع ان تقدم العمر ترك أثراً واضحاً في جبينها وخدّيها، لكن جوبيناث لا يزال يراها جميلة كفتاة في عمر الزَّهرة التي لا تذبل بتاتاً. فيزيده ذلك تصميماً على ألا يتأخر كثيراً في تحقيق وعده لها.
بعد عام من زواج ابنهما الوحيد، ورحيل ابنتهما مع زوجها، وجد أنه استطاع أن يدّخر مبلغاً لا بأس به. وظلاّ على بساطة أسلوبهما في المعيشة، ونتيجة لمهارة ليلافاتي في تنظيم الإنفاق المنزلي، نمت مدخرات جوبيناث في مكتب البريد إلى 750 روبية، وهو بالضبط ثمن الساري الحريري الأزرق الذي يحلم بشرائه منذ ربع قرن من الزمان.
بقي يومان فقط قبل أن يحلّ العيد. أغلقت المدارس لمدة أسبوع ليقضي التلاميذ ومعلموهم عطلة العيد بغير أعباء. وعندما اقترب جوبيناث براساد من مكتب البريد، خُـيِّل إليه أن شباك المكتب المفتوح أمامه جزئياً مثل ذراع ممدوة إليه.. زاد إيقاع خطوِه نحو المكتب.. وبعد عشر دقائق خرج وهو يبتسم والمبلغ في حرز أمين في جيب بدلته الداخلي.
أسرع قاصداً بيته وهو سعيد بأن ابنه براباكار وزوجته سيعودان إلى البلدة قادميْن من بلدة جيسور. وبعد ذلك بيوم ستصل ابنتهما كوسوما ومعها طفلتها ذات العامين. سيكون عيداً سعيداً بالطبع، لأن شمل العائلة سيلتئم.. أي مناسبة أحسن من هذه تصلح لمفاجأة زوجته بالهدية المنتظرة؟ قلبه يخفق بشدة من فرحه بهذه الفكرة.. سيرحِّب بولده وزوجة ولده ثم يخرج إلى السوق لشراء الثوب الحريري. لا بد أن عيني ليلافاتي ستغرورقان بدمع الفرح، ولا بد أنها ستقول له:
- أوه.. إنك تدلّلني كالصغيرات. إنني لا أستحق كل هذا التدليل.
وطبعاً سينبري جوبيناث ليقول لها وهو في أقصى درجات السعادة:
- بالطبع أنت تستحقين.. إنني أريد تدليلك.
ومن دون أن يشعر أحسّ بالدم يتدفق في جانبي وجهه حياءً من الفكرة التي انطلقت تعربد في مخيلته. وقال لنفسه إنه لا بد أن يحافظ على وقاره المعهود أمام ولده وبنته وحفيدته؛ وإنه لن يستطيع أن يحدثها بتلك اللهجة، لأن الهدية وحدها تكفي للتعبير عن حبه لها.
عندما وصل إلى داره وجد ابنه وزوجته قد سبقاه. وشعر جوبيناث بأن الزواج كان فألاً حسناً لابنه، وهو يرمق بحب أبوي حانٍ جسم ولده الممتلئ، وملابس المدن التي أصبح يرتديها كأنه لم يرتد ملابس القرية قط.
كانت ليلافاتي في أحسن حالاتها.. تتحرك في خفة ورشاقة الصبيّات دون العشرين، وهي تستقبل ابنها الذي غاب عنها عاماً كاملاً، من الحول إلى الحول.. وتجلّت مهارتها وهي تقدم لضيفها العزيز وزوجته أبهى أنواع الطعام الذي أعدّته بيديها.
قال ولدهما براباكار وهو يتناول منها قدح الطعام:
- لا بد أن أمي قضت يومها كله في المطبخ لتعدّ لنا هذا الطعام..
وبعد أن تناول الطعام مضى إلى الغرفة التي وضعت فيها ليلافاتي متاعه، وعاد وهو يحمل طرداً ملفوفاً بالورق ومربوطاً بخيط زاهي اللون.
ــ أمَّاه.. هذه لك.. ولأبي قلم حبر سائل فاخر..
شكر جوبيناث ولده، وطفق يرقب في شيء من عدم التصديق زوجته وهي تفتح الطرد. بين لفات الورق هناك ثوب حريري أزرق جميل للغاية.. تحاشت ليلافاتي أن تلتقي عيناها بعيني زوجها. وقالت تخاطب ولدها كأنها تهمس:
- إنه جميل حقاً.
وأضافت:
- لا بد أنك يا براباكار أنفقت ثروة طائلة على شرائه.
فقال لها وهو يضحك:
- لقد مللت أن أراك ترتدين ثوباً وأحداً في كل المناسبات الطيبة.. وهو ذات الثوب الذي أراه لديك منذ مولدي..
وأضاف بعفوية:
ــ إنه يكلِّف 850 روبية، لكني حصلت عليه بتخفيض قدره 100 روبية.
لم يستطع جوبيناث أن يداري الغصّة في حلقه.. شعر بأنه يكاد يختنق. نهض فجأة من الكرسي الذي كان يجلس عليه، وضغط على أزرار سُترته، وقال:
- لدي عمل لا بد أن أؤديه. سأعود حالاً.
ولم يكن ذلك العمل غير الذهاب ثانية إلى مكتب البريد لإيداع المبلغ الذي سحبه لتوِّه.. فهو لا يستطيع أن يفكر في أي شيء آخر ينفقه فيه الآن.
وعندما مرّ بالقرب من الدكان الذي يبيع صاحبه ثياب الحرير الأصلي لم يتوقف، ولم يتلفت كعادته.. فقد تحقق حلم زوجته القديم.


 
 توقيع : محمد عوض السيد



نضــج الحــــــــلم
ولكــــن الزمـــــــــــن
هو الذي لم يســــــــتو بعد
فما جدوى أن يبلغ القـــــــلب
رشـــــــــــــــــداً ســــــــــــــريعاً
(احلام مستغانمي )
مواضيع : محمد عوض السيد



رد مع اقتباس