الكلمة...؟

ذلك الاعرابي البعيد البعيد في أغوار أغوار التاريخ ..هل تذكرونه؟؟ هل ترون ملامحه.؟؟ تقاطيع وجهه؟؟
ذلك الاعرابي رمى ببصره بعيدا بعيدا فانداحت في ناظريه الصحراء والوهاد والجبال..فأسرعت الرؤى اليه سريعا سريعا وتعمقت في وجدانه فكان منه اللوحة المرسومة كلمة مموسقة منغمة بيد فنان ماهر..نستقرئ اللوحة فتنطق اللوحة فتسمعنا انغام اوتارها ..نطرب ونطرب,,وتظل تعزف انشودة الخلود ونظل نطرب..تصحبنا جيلا بعد جيل..وقرنا بعد قرن ما دامت الاذن صافية السمع صاغية..
ويجيئنا الوتر الصدوح(كلمة) ..تستدعى فتستجيب.. تستنجد فتنجد..تستصرخ فهي رهن الاشارة..
تلك هي الكلمة..
ذلك الاعرابي امتطى صهوة جواد ه او تسنم ظهر بعيره كانت (الكلمة) زاده..هي عنده وردة المحب وزفرة المكلوم ..سيف المحارب ونصرة المظلوم..
ظلت (الكلمة) هي زاده تجسد نفسه وتحكي مشاعره وتفضح وجدانه وتقرب منه البعيد..
ظلت (الكلمة) هي زاده تروي الرحيل وتصف الراحلة وتبكي الاطلال..
(الكلمة ) في مجملها هي مشوار حياته كلها ..بل هي حياته ..في سلمه وحربه في حبه وبغضه ..
بذات (الكلمة) التي انحدرت الينا منه عبر القرون قرأناه..قرأناه بكل ابعاده وزواياه..في كل شدته ورعونته وقساوته..في كل لينه وطيبة قلبه .في كرمه ومروءته ونجدته..في اقدامه وبسالته..
تلك (الكلمة )انها صلة الوصل..تظل حية باقية ماشاء الله سبحانه لها ان تبقى..
هذه الكلمة قرأنا بها ذلك الأعرابي في جفاف تشبيهاته:
أنت كالكلب في حفاظك للعهد وكالتيس في قراع الخطوب
أليست هي البيئة بكل مرئياتها..اذا لابد للغة أن تعايش هذه المرئيات والا اتهمناها بالجمود.
قرأنا ه بها في جفاف منهجه.
وأحيانا على بكر أخينا
اذا لم نجد الا أخانا
ونشرب ان وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
قوم اذا الشر أبدى ناجزيه لهم
طاروا اليه زرافات ووحدانا
لايسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا

وان كنت لا أرمي وترمى كنانتي
تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي
فقل لبني عمي فقد وأبيهم
منوا بهريت الشدق أشوس أغلب
أفيقوا بني حزن وأهواؤنا معا
وأرماحنا موصولة لم تغضب
ومع هذا ومن جانب تصويري آخر قرأنا ه بها في حكمته:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك مافي الأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
وتستجيب له (الكلمة) في تصوير أحاسيسه ودفق نفسه فتنقلها لوحة زاهية الألوان تفتر عن شفتي رضا أو لوحة قاتمة الظلال معتمة.
وإلف هموم ماتزال تعوده
عيادا كحمى الربع أدهى وأثقل
اذا وردت اصدرتها ثم انها
تثوب فتأتي من تحيت ومن عل

وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الاصباح منك بأمثل
تتعاقب الأجيال والحضارات وتغطيها الطبقات-طبقات الأرض-ولكن تبقى الكلمة حية فتية..تمتلئ شبابا وحيوية..تخترق كل الطبقات كبركان ثائر لتروى وتحكى وتقص..بل وتعيش مع الأجيال القادمة ..تسمعنا الهمسة والبسمة..الأنة والصرخة..الآهة والنحيب..ترينا الطيور في أوكارها..الخيول في كرها وفرها..الصناديد في قتالها..ذوات الخدور في خدورهن.
وينزل الذكر الحكيم.فيضيف للكلمة صياغة جديدة ويؤدي بها فهما جديدا وشرعا متبعا راشدا رشيدا..ويهيؤها لحياة جديدة قوامها (الوحدانية) في قوله سبحانه "قل هو الله أحد الله الصمد.لم يلد ولم يولد.ولم يكن له كفوا أحد"وأطرها كتاب رب العالمين وشرعه "الم.ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين.الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون.أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون".. ومنهجيتها في قوله سبحانه "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم".."ويرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"
وتنداح الكلمة في اطار هذا المنهج الجديد لتعطي أبعاده وتصف مراميه وأهدافه لتصل لتحقيق غاياته..وفي هذا الاطار تبلورت هي نفسها لتعايش هذا المجتمع الجديد بكل منهجيته في علاقته بربه وخالقه..في علاقته بالكون والوجود والحياة في علاقة أفراده وجماعته ببعضهم..حيث تجمعهم جميعا (كلكم لآدم وآدم من تراب) لافضل لأحد على أحد الا بالتقوى ..منهجية(لا ضرر ولا ضرار) منهجية(أحب لأخيك ماتحب لنفسك) وفي هذا الاطار يكون البناء والنماء..في هذا الاطار يتفتق الذهن عن زهور الفكر اليانعة فيقيم في الأرض حياة باسقة ظلالها.
وفي هذا الاطار تمشت (الكلمة)..لم تتخلف أو تتقاعس في أداء مهمتها.وهذا التغير في المنهج تبعه تغير في الألفاظ والتراكيب..فخصائص الأمة العقلية ومميزاتها في الادراك والوجدان والنزوع ومدى ثقافتها ومستوى تفكيرها كل هذا ينبعث صداه في لغتها..فقد هذبت آيات القرآن الكريم الطباع حتى في الجانب الاجتماعي أو الشخصي ..فيعبر عن لقاء الفراش بين الأزواج بمثل قوله (فأتوا حرثكم-واهجروهن في المضاجع-أفضى بعضكم الى بعض-يتماسا-لامستم) الى آخر مثل هذه الألفاظ الكريمة اللطيفة.
والاسلام يعد نقلة حضارية ضخمة لذلك البدوي من بداوته وشراسته الى حيث التحضر والمجتمع الراقي في سلوكه ومعاملاته وحتى في أخص خصائصه الذاتية.
وخلال هذه النقلة وتبعا لها تموت كلمات وتحيا أخر.. وينتقل مدلول من معنى عام الى معنى اصطلاحي خاص كما حدث لمثل الألفاظ(الصلاة-الحج-الزكاة...)وتدخلها كلمات وألفاظ جديدة من لغات أخرى فمن الفارسية مثل(الابريق-الطست-الطبق-الخز-الديباج-السندس-الياقوت-الفالوذج-النرجس-البنفسج-الخ).
ومن اليونانية أسماء بعض آلات الرصد والجراحة وبعض مصطلحات الطب والفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية وغيرها..كما أخذت عنها أسماء بعض المعادن والوظائف والمنشآت المعمارية وأدوات البناء والموازين والأمتعة مثل: (البطريق-القنطرة-الفردوس-القراميد-القسطاس-السجنجل).
وتتفاعل كل هذه الألفاظ والمسميات مع اللغة العربية لتصبح جزءا منها ..وباتساع الساحة الاسلامية استقبلت اللغة العربية جديدا لم تعهده من قبل ..ولكنها (الكلمة العربية) سليلة المجد التليد استقبلت الوافد الجديد من(ألسن القوم وفكرهم وعلومهم) واستوعبتهم استيعاب صاحب رسالة وأمين أداء .. وهنا عبقريتها ومنطق خلودها.
هذه (الكلمة ) كما حملت المشاعر والاحاسيس ودفقات النفس الانسانية حملت على اكفها معضلات الفقه والفقهاء وسفسطائية الفلسفة والمتفلسفين ومغالطات المتكلمين ..
حملت على اكفها معادلات الصيادلة وارقام الجبر والحساب ..ومباضع الجراحة والجراحين ومطولات الطب والاطباء..
دونت بها علوم الفلك والنجوم والرياضيات وعلوم البحار ومناهج المعمار وتاريخ الامم والممالك..
امام هذا الكم الهائل من من العلوم والمعارف لم تتراجع الكلمة العربية بل اقدمت اقدام الواثق غير هيابة ولا ايابة وفتحت صدرها لكل جديد وافصحت عنه من غير لجاجة ولا فجاجة..
هذا الشاعر القدير حافظ ابراهيم يسجل عظمة هذه اللغة العبقرية الخالده:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف اضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق اسماء لمخترعات
انا البحر في احشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم ابلى وتبلى محاسني
ومنكم وان عز الدواء اساتي
هذه (الكلمة ) دخلت قصور الملوك والامراء فكانت جريئة مقدامة..
تراقصت في الردهات وتغنت في الصالات ..ترفهت وتنعمت ..اصبح ملمسها حريرا ترفل في الديباج والحلل..تنثر وردا على شفاه الغيان..فاسمعتنا رقة ولطافة ورشاقة..
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
وآخر يقول :
اتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد ان يتكلما
وآخر يقول:
اقول وقد ارسلت اول نظرة
ولم ار ان الهوى قريبا الى جنبي
لان كنت اخليت المكان الذي ارى
هيهات ان يخلو مكانك من قلبي
وكنت اظن الشوق للبعد وحده
ولم ادر ان الشوق للبعد والقرب
خلا من طرفي وامتلا منك خاطري
كأنك من عيني نقلت الى قلبي
هذه(الكلمة )حينا تجدها كالطفل ناعمة هادئة وادعة ..وحينا تجدها جادة تقاسيم الجبين قاطعة كنتوءات صخر في قمة الجبل..
هذه (الكلمة ) هل هي انسان يمشي على رجلين؟؟
تبتسم وتفرح وتقهقه..تكتم الآهة وتقطع الاحشاء وتبكي ؟؟..
هل هي ذاتنا ام وعاء لذاتنا.؟؟.نصب فيه مشاعرنا واحاسيسنا ام هي احاسيسنا ذاتها؟؟
الامر فيه تداخل غريب..بل الامر فيه جدلية فلسفية نطرحه عند عتبات المناطقة..
أقرأ القصيدة فألفاها مطروحة الجبين جميلة المحيا ..وأقرأ اخرى فأجدها مقطبة الجبين محمرة العينين تقذف شررا..
حينا تأتي الكلمة مدللة تحمل الياسمين والعنبر وأخرى تجري مهرولة تحمل السكين والخنجر..
ان كانت تلك نفوس القوم فقد اكتست نفوسهم وان كانت تلك طباعهم فقد ارتدت لبوسهم..
أليست الكلمة كائنا حيا ..تتربع معنا على المائدة ..مائدة الغني والفقير..وترقص في الفرح وتوزع البسمات على الشفاه..تودع الظعن وتستقبل الحبيب وتذكر البعيد..تركب الخيل والبغال والحمير.. السيارة والباخرة والقطار والطائرة..
تسكن القصور والخيام والاكواخ..تعتلي قمم الجبال وتسرح في الوديان..
تلك هي الكلمة..تجالس العلماء وتخطب في الجموع والمحافل..
تصول وتجول..تستنكر وتتوعد وتسيل كسيل العرم من الحناجر المثقوبة..
هذه الكلمة بنت لنا حضارة ومجدا..
هذا (تأبط شرا)واحد من صعاليك العرب ومطاريدهم يسجل بالكلمة حكمة:
اذا المرؤ لم يحتل وقد جد جده
اضاع وقاسى امره وهو مدبر
ولكن اخو الحزم الذي ليس نازلا
به الامر الا وهو للحزم مبصر
هذا (ابو فراس الحمداني)يبني من الكلمة قصرا من الفخر :
ونحن اناس لاتوسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين او القبر
اعز بني الدنيا واعلى ذوي العلا
واكرم من فوق التراب ولا فخر
هو ابو فراس نفسه استمع الى كلماته في الحب والهوى في ذات القصيدة:
تسائلني من انت؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر؟
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
قتيلك..قالت ايهم ؟ فهم كثر
هذا الحطيئة يحبسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهجائه ووقوعه في اعراض الناس فيلجأ للكلمة الشاعرة يستعطف بها عمر رضي الله عنه اذ يقول :
ماذا تقول لافراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماء ولاشجر
القيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
انت الامام الذي من بعد صاحبه
القى اليك مقاليد النهى البشر
فامنن على صبية مسكنهم
بين الاباطح تغشاهم بها القرر
فافرج عنه امير المؤمنين عمر رضي الله عنه..
هذا عروة بن الورد سيد الصعاليك لأنه كان يعطف عليهم ويؤويهم يحدثنا عن الفقر والغنى حديث عارف مجرب اذ يقول :
ذريني للغنى اسعى فاني
رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم
وان امسى له حسب وخير
ويقصيه الندي وتزدريه
حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال
يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جم
ولكن الغني رب غفور
دعونا نرتحل مع الكلمة في عدد من مآلاتها..
هنا الكلمة في مجلس الانس تشرق وتغرب كما يقولون..
هذا صاحب كتاب (الامتاع والمؤانسة )ابو حيان التوحيدي يسجل لاحدهم عن الخمر :
ومورد الوجنات يخطر
حين يخطر في مورد
يسقيك من جفن اللجين
اذا سقاك دموع عسجد
حتى تظن الشمس تنزل
او تظن الارض تصعد
فاذا سقاك بعينه
وبفيه ثم سقاك باليد
حياك بالياقوت تحت
الدر من فوق الزبرجد
وابيات من بعد هذه يمنعني الحياء من ذكرها..
هذا ابو العلاء المعري الشاعر الفيلسوف المتمرد على الحياة والاحياء يقول :
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي اذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
ابكت تلكم الحمامة ام غنت
على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأالرحب
فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطأ ما اديم الارض
الا من هذه الاجساد
وقبيح بنا وان قدم العهد
هوان الآباء والأجداد
سر ان استطعت في الهواء رويدا
لااختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
الكلمة كما عرفناها جادة فهي في ميدان المفاكهة والهزل لا تقل شأنا..
هذا ابو الحسين الجزار-رجل فكه خفيف الظل يحب الكنافة والفطائر يقول:
وفطائر مقرونة بكنافة
من فوقهن السكر المذرور
هاتيك تطربني بنظم رائق
ويروقني من هذه المنشور
حتى في اراجيز الحب والهيام نجد الكلمة مبدعة..
هذا الشاعر يقول:
شبيهك بدر التم بل انت انور
وخدك ياقوت وثغرك جوهر
ونصفك كافور وثلثك عنبر
وخمسك ما ورد وباقيك سكر
السماني كمال الدين