محمد احمد محجوب .. الشاعر المبدع .. الحلقة الأولى

محمد احمد محجوب ..
الشاعر المبدع.. الحلقة الأولى
السماني كمال الدين..
عندما يرد في ذهنك هذا الاسم(محمد احمد محجوب)فاعلم يقينا انك امام قامة فكرية وعقلية متميزة0 المحجوب ذهنية عالية الطموح والكفاءة0عالية التفرد والاعتداد بالنفس0اعتلى قمة كان الاحق بها واهلها00
المحجوب ( السياسي المقتدر-المحامي المفوه-القاضي المتمكن-الشاعر المبدع-الاديب البليغ اللبق-المهندس الفنان )في كل هذه الميادين كان صاحب اداء 00
بدأ حياته بكتابة الادب شعرا ونثرا0 وكانت كتاباته الاولى في مجلات(حضارة السودان-النهضة –الفجر)كتب في الادب و النقد الادبي وفي الاجتماع وفي الشئون العامة وقضايا المجتمع وفي الشعر والقصة والمسرح00
له من المؤلفات:(موت دنيا-نحو الغد-الحكومة المحلية-الحركة الفكرية في السودان الى اين تتجه-الديمقراطية في السودان)وله من دواوين الشعر(قصة قلب-قلب وتجارب-مسبحتي ودني)00
ثم دخل المحجوب ميدان السياسة اذ كان في البداية من مجموعة المستقلين0وكان انتماؤه لحزب الامة فتحا واضافة للحزب00
انتخب عضوا في الجمعية التشريعية ثم عمل وزيرا للخارجية ثم شغل منصب رئيس الوزراء وكان في كل ذلك صاحب الاداء المتميز00
محمد احمد محجوب رائد من رواد النهضة الادبية والسياسية في السودان وكان هدفه الاساسي في كل كتاباته النهوض بالحياة ومعطياتها من كل جوانبها وارساء قواعد اساسية تقوم عليها هذه النهضة00
الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية كلها من المؤثرات التي عاشها المحجوب معايشة المدرك لواقعه الناظر لبواطن الامور00
فقد قلب صفحات واقع امته جميعها من نصر وهزيمة وكفاح ونضال وقوة وضعف وتعمق حياة مجتمعه من بؤس وشقاء ونعيم ورخاء وجهل ومرض وفقر وفاقة 0كل ذلك جرى في دمه واختال في حناياه0 ابتلعه واقعا وصاغه نبضا صادقا00
في هذه الصفحات سأقصر حديثي وكتابتي في (المحجوب الشاعر المبدع)لا اتجاوزه الا فيما يقتضي الحديث من تفرع هنا وهناك00
الشعر السياسي الوطني:
في ديوان (قلب وتجارب) قدم المحجوب الشعر الوطني على غيره رغم أكثرية الشعر الغزلي-ذلك شعورا منه أن قضايا الوطن أهم من القضايا الشخصية والغناء الذاتي وداعي الوطن عنده فوق كل شئ.
لقد تعمق حب بلاده في نفسه منذ أن كان يسترق السمع وهو صغير الى أقطاب الحركة الوطنية الذين يتجمعون في بيتهم(ويأخذون في الحديث عن خططهم وعما كانوا ينتهون فيه من تدابير).
لعل قضية الوطن والدفاع عنه,و الزود عن حياضه,وطرد المستعمر الانجليزي أصبحت من المكونات النفسية للشاعر,ونداء الوطن عنده مقدم على كل نداء..حتى ساعات لهوه ومنى أحلامه يركلها برجله عندما يسمع داعي الوطن.
فصحونا على نداء من الشعب غزا وقعه الفؤاد الشجاعا
ومضينا الى الكفاح خفافا ومشينا الى الفداء سراعا
قد ألفت الجهاد دهرا طويلا وحميت الديار كي لاتراعا
خضت فيها معارك كالحات كنت فيها مهندا ويراعا
موطن عز أن أراه ذليلا أو أرى أهله الكماة جياعا
واذا رسمنا خطا بيانيا على شعره السياسي تجد كل الخطوط تلتقي عند خط المرتكز القائم على التفاؤل الايجابي رغم العتمة والظلام,ولكن الرؤى كلها مضاءة حوله.فهو لا يقف عند اثارة العواطف بل يتقدم ولا يقف عند باب الأماني الحلوة العذبة والأحلام المتناثرة,ولا يمنعه استرجاع الأمجاد السالفة عن مواصلة المسير. فالأمجاد القديمة طعمة لاصطياد المستقبل الزاهر. واذا كان الوجدانيون قد سد عليهم القلق والاضطراب والحيرة والشك منافذ الحياة فانه دائم التفاؤل بالغد المشرق. في قصيدته (ذكريات الجهاد) يخاطب صديقه العزيز عنده عرفات محمد عبد الله-عليه رحمة الله- صاحب مجلة الفجر:
إنا وربك لانزال بعهدنا نهوى الرشاد ونكره التضليلا
طلاب حق لانبيح لباطل حق الحياة فيستذل النيلا
نقضي عليه بشُرّع مشبوبة تركت جيوش الآبقين فلولا
وبألسن حذقت بدائع لفظها فمضت تؤثل للبيان أصولا
نم في ضريحك هادئا مستبشرا فرجال فجرك قد أثاروا الجيلا
ويقول في أخرى:
نحمي البلاد ونحمي سنة سلفت أجدادنا جاهدوا فيها ومانكبوا
شيكان تشهد كم صالوا وكم قتلوا وأهلك الشرك من نيرانهم لهب
لابارك الله في الدنيا يكدرها ذل القيود ويغشى أهلها الريب
اكتوى المحجوب ورفاقه ممن حملوا عبء الاصلاح والتغير بنار أولئك القوم الذين ساروا في ركب الاستعمار وأصبحوا يمينه الذي يبطش بها رقاب الأبرياء ويحصد نفوسهم وأرواحهم,وأصبحوا أولياء للظلم,تعهدهم المستعمر بالجاه والسلطان وفرش لهم بساط القرب والود الكاذب,فصدقوه وتساقطوا على بريقه الكاذب .
ياضيعة الوطن الذي أنصاره قوم يرون النصر في الخذلان
قوم يرون حياتهم في ذلهم ويرون كل الخير في الاذعان
يتفاخرون بقربهم من حاكم وبدسهم للفرد والأوطان
هذا زمانك يامهازل فامرحي قد عد كلب الصيد في الفرسان
وشعر المحجوب السياسي نابض بالحركة وتوالي الايقاع الذي يقرع جدران النفس ويلهب جذوتها,عامر بالصدق:ينضح بالاخلاص..
وشعره في هذا المجال كثير ومتعدد, صاحب الحركة الوطنية منذ صباه وسار معها كل تعرجات وانحدارات خطوطها البيانية.صاحبها من أيام الاستعمار والاستقلال والتشتت الحزبي..ثم الانقلاب العسكري 1958 حتى 1964 وله في ذلك مجموعة من القصائد تسجل المواقف والأحداث,ولقد سجل سنوات سجنه في شعر عميق مؤثر..ثم يأتي أخيرا ويعطينا كل نفسه ومشاعره بكل مكوناتها العميقة في قصيدته (تسبيح مغترب) بعد أن ساح في الأرض غريب الأرض والوطن.
واذا قفزنا قفزة زمنية طويلة في مرحلة النضال الأولى ضد الاستعمار بكل ايجابياتها وسلبياتها وجئنا الى الحكم العسكري الذي قام به الفريق ابراهيم عبود في عام 1958.نجد قصيدة (اللصوص)تسجل انطباعاته نحو هذا الحكم الذي استمر ست سنوات.حتى عام 1964..
تعرض القصيدة في أولها صورة للحياة وحركتها في هذه الدار فهي حياة ناعمة هادئة بما تحتويه قلوب أهلها من الايمان الوافر والأمل الذي لا تحده حدود.
هذه الدار بالجمال تمور......
وبها الخير والنعيم الوفير
قد بنى مجدها وحماه
أهلها الصيد شبابها والكهول .
واذا كان الغاصب الأول هو المستعمر الأجنبي ,فان مستعمري اليوم هم-بكل أسف- أبناء الدار ذاتها.. غير أن اللصوص توالوا
يحصدون الألوف دون قصاص
ينهبون النفيس من كل بيت
يقهرون الجرئ صنو النضال
واللصوص العتاة بعض بنيها
سلبوها حياتها وعلاها
يضع الشاعر بين أيدينا لوحة ناطقة بما آل اليه بنو هذه الدار.
جنة للغاصبين جناها
وبنوها مشردون حيارى
اثقل القيد أرجلا وبراها

الناس دائما يعيشون على الامل المصحوب بحركة الدفع 0 وعلى التفاؤل القائم على حسن التدبر في المصير0 وما بين حركة الدفع وتبين الطريق يكون استرجاع الحقوق وردها:
رد للدار مجدها وبهاها
وكساها الجمال ثوبا قشيبا
وبنوها يقبلون ثراها
ينشرون العبير منه فتيقا
وجرى نيلها السعيد طليقا
يسكب الخير والنعيم الوفيرا
وانطلاق الحياة من كل قيد
صار دستور شعبها المكدود
ونقفز عبر كل قصائده ومقطوعاته الوطنية الكثيرة العدد العميقة المضمون التي رسم فيها احاسيس ونفسيات وطنه وابناء وطنه عبر تلك السنين وتقلبات الايام ونصل الى اول السبعينيات بعد ارتحاله بين المغرب وبريطانيا لنستمع معا الى قصيدته الرائعة الخالدة(تسبيح مغترب)المنشورة في ديوانه الاخير (مسبحتي ودني)0
في غربته بعيدا عن وطنه او مبعدا عنه اصبح يجتر الذكريات ويمضغ الامس بين اضراسه 0 تحتشد امامه كل الرؤى وتحيط به0كل الامس بكل زخمه وما فيه0بكل حلوه ومره00
القصيدة شوق وحنين وامس غربت شمسه وليل ضاع سامره0الشوق لايطبق جفنه والقلب لايسلو والنفس متعلقة بما جبلت عليه00فكان الوطن الحاضر الغائب00
بعدت دارها وعز لقاها
واستبدت بنا فزاد هواها
ملأ النيل والبطاح وغنت
كل صداحة به في رباها
فاذا سرت في البلاد غريبا
رن في مسمعي صدى مغناها
ردني الشوق والحنين اليها
في ندى الازهار شمت شذاها
زودتني عند الرحيل جراحا
ورمتني بسقمها عيناها
زادني البعد حرقة وهياما
فتمنيت رشفة من لماها
هي نالت فكري وجهدي رضيا
وتمليت في الدجى ذكراها
القصيدة رغم روعتها وجمالها في الأداء والصدق الشعوري والفني الا أن هذه العجالة لا تسمح بعرضها,وهي على طولها شحنة من المشاعر , ودفعة من الأحاسيس تدافعت في نفس الشاعر لما آل اليه حاله.وهي مزج من دمعة سخية,ووفاء واسع,وذكريات طبعت في الأعماق ونقشت في الجبين,وماض من الكفاح المسلح بالفكر والعلم والروية والحكمة.ولبنات حملوها على أكتافهم شادوا بها صرح مجد أمتهم,ونضال عرضهم للموت مرات ومرات,وكم انتزعوا وطنهم من براثن الأسد.
نحن من شاد مجدها وعلاها
نحن من رام غيدها وظباها
من ترى علم الحمام... غناها
غيرنا نحن..شعرنا في لهاها
ذكرياتي..وكم نظمن عقودا
صرن في المحل ذخرها وحلاها
ذكرياتي.تاريخ شعب طويل
ونضال حر سما في ذراها
نحن من فجر الحياة وأرسى
ثورة الفكر فجرها وضحاها
قل لمن رام مجدها دون مهر
ثورة الفكر لا يحد مداها
هذه النماذج التي عرضتها من شعر المحجوب السياسي والوطني لا تمثل الا مجرد قفزات طويلة عبر الزمن لاعطاء القارئ صورة سريعة وعامة ومبسطة عن عطاء هذا الشاعر الفذ في هذا الجانب,ولمن أراد الاستزادة يمكن أن يرجع الى دواوينه.

اخي السماني
تحية لك وانت تعبق اجواءنا بذكرى هذه القامات فهم نجوم سمقت في سماء وطننا هذا.
فكانت اسماء خطتت حروفها بمداد من نور
كواكب اظلت حياتنا و خلدت ذكريات ما فتئنا نرددها ورحلت .
اشكرك أخي على صحيفة التوثيق تلك انها لفتة بارعه اهنئك عليها اخي .
رحم الله من رحل منهم ومن بقى على قيد هذه البسيطة
وليييي قدام

ياسلام عليك يا اخونا السمانى
والله من اجمل الموضوعات فى المنتدى
وربما هنالك كثر لا يعرفون الوجه الاخر للراحل المقيم محمد احمد محجوب
لك التحية اخى السمانى على هذا التوثيق الجميل
وحقيقة قلة هم من حباهم الله بملكة التوثيق
فهنيئا لنا بك ونحمد الله على وجود امثالك احبارا لهذه الأمة
أسأل الله ان يوفقك دوما ويسدد خطاك
تجدنا دوما متابعين و فى انتظار المزيد من الإضافات الثرة للموضوع والتوثيقات


نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا‎ فذقتُ فيكِ من التبريحِ‎ ‎ألوانا‎
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ‎ داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا‎
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ‎ ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا‎
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها‎ ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا‎
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها‎ مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا‎