الموسيقار عاصم الطيب قرشي
رونق التراث المتألق، والمظهر المختلف
عندما طلب مني صديقنا الدكتور النور تقديم الموسيقار عاصم الطيب قرشي ترردت للحظة ، فرغم سماعي به وبرحلاته إلاّ أن معلوماتي عنه قليلة ، ومتابعتي لأعماله محدودة ، فوعدت النور خيراً ، وذهبتْ من فوري لأستجلي أمر هذا الرحالة الصوفي المتجول .. ماذا يحمل ؟
ولا أبالغ إن قلت لكم أنني وبعد مشاهدتي له والإستماع إليه وجدتْ نفسي أمام ظاهرة كونية ساطعة كنت محروماً من طلعتها ، فقد وجدتْ فيه فناناً مختلفاً ، وعازفاً متفرداً ومغنياً خاصاً ، فتسمرت أما م الشاشة مذهولاً ، متنقلاً من موقع إلي موقع ، من فيديو إلي آخر ، ووجدت في الرجل سيماء تصوف لا تخطئه العين فاذداد إهتمامي ، فهو عندما يعزف يفنى في اللحن ، وعندما يغني يتحد مع الكلمة ، ويعيش في حالة هي عين الجمع بين روحه وفعله ، يصبح هو والآلة والكلمة والنغمة شيئاً واحداً ، فيصعب عليك معرفة من أين يخرج الصوت ، يبدأ عزف العود بالريشة وفي لحظة إنجذابية عجيبة يتحول إلي عزفه بالأصبع ، شيئ عجيب ، توقفت عنده مندهشاً ، وإذدادت دهشتي عندما وجدته يفسر ذلك في مكان آخر مع مذيعة حاذقة سألته ،
فأجاب إجابة خارقة ، إذ قال ؛ أنه يعتقد أن الأصبع ليس مجرد أداة جامدة للعزف .. كالريشة ، ولكنه أي الأصبع يحمل كل الأحاسيس والإنفعالات الداخلية الدقيقة إلي الوتر …. بطريقة عضوية ، وهذا ما يجعل النغمة ليست مجرد موجة صوتية مجردة ، ولكنها موجة مشبعة بتلك الإنفعالات ، … ولعمري ليس هذا تفسيراً عادياً ،،، ولا يتأتى لإنسان عادي … إنه تفسير عميق يذكرك ببعض التفسيرات المذهلة لبعض المسائل الشائكة لبعض شيوخ وعلماء التصوف
وعاصم بهذا التفسير لخص مشروعه الفني المرتكز اساساً على روحانيات سامية يترجمها ليس فقط بعزفه .. وليس فقط بصوته ولكن بنقل هذه الروحانيات والمعاني الحية إلي أذن وبصر المشاهد ، وإذا إنفعل بصرك وأذنك في آن واحد فأنت بالتأكيد في عالم آخر ، في مقامات عليا لا تنتقل إليها إلاّ عبر هذا التداخل الوجداني بين الروح والفن
وإذا كانت الموسيقى هي روح الوجدان للبشر فعاصم من الذين تتكون وجدانهم من الموسيقى ، كأن الموسيقى ليست مضافة لوجدانه بل هي وجدانه ذاته ، والموسيقى في الأصل إحساس مرتبط بفطرة الإنسان كفن بدئي أولي في تاريخ البشرية ، وكما قال أشهر علماء الطبيعة فصنعة الموسيقى وتذوقها سبقت قدرة البشر على الكلام ، يعني الإنسان كان يتكلم بالإشارات ، وقبل أن يتعلم الكلام عرف الموسيقى ، كان يدق حجر بحجر ، خشب بحشب .. كل ذلك مصاحب بأصوات من الحنجرة ، كان بتحمس بهذه الأصوات المختلفة والمبهمة في ممارسة الصيد ويطرد بيها خوفه من الطبيعة الموحشة، وتلك حالة مرتبطة بمتطلبات الروح ، فإذن إرتباط الموسيقي بروحنيات الإنسان مسألة أصيلة ومن صميم تكوينه، وهذا يعني أن مشروع عاصم الفني وفلسفته المازجة بين الروحانيات والفن ليست شطحة صوفية ، إنما مسألة طبيعية أصيلة وفن بديع يمثلها عاصم خير تمثيل . وكما قال أحد أساطين الموسيقى ، بيتهوفن ، (الموسيقى هي الحلقة التي تربط الروح بالحس) وكما قال أيضاً ( أريد إمساك قدري من عرقوبه ) فقد ربط عاصم روحه بإحساسه عندما أمسك قدره الفني من عرقوبه وعض عليه بالنواجذ
في التاريخ الإسلامي مقولات إيجابية كثيرة عن الفن ، فكل فلاسفة الإسلام ومفكريه ومتكلميه لم يروا تضاد بين الدين والفن ، ونستشهد بمقولة واحدة لواحد من أكبر العقول التي مرت في التاريخ الإسلامي وهو الغزالي إذ يقول ((من لم يحركه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج)) ، ونشهد أننا لسنا من فاسدي المزاج ، بل أننا في هذه الليلة بالذات يتملكنا مزاج ملح للإستماع لأحد فلاسفة الفن ، وعباقرة الإبداع ، إسمه عاصم الطيب قرشي
وقد فلسف عاصمْ الموسيقى ، أو قل موسق الفلسفة الروحية ، جمع بين الفن والتصوف في أكمل صورة ممكنة ، ونحن لا نعلم هل الموسيقى ساقته إلي التصوف ، أم أن التصوف أخذه إلي الموسيقى ، أم أنه ولد بهما فنشآ معه وساقاه إلي مراقي روحية عليا وعوالم لحنية خفية ، فطل علينا من ذلك المحراب متدثراً بثوب الصوفي الذي يفاجئ الناس بما لا يألفون
شارك عاصم في كم هائل من الفعاليات داخل السودان وخارجه، وجاب استراليا شرقاً وغرباً ، شمالاً وجنوباً ، وهو معترف به كفنان استرالي مثل استراليا في محافل خارجية كثيرة ، ولكنه في عالميته ينطلق من أصل ثابت هناك في
السودان ، حيث المولد والنشئة والتكون
عاصم من مواليد مدينة الرصيرص ، ، درس في المعهدالعالي للموسيقى والمسرح في السودان ، عمل في مجال العزف لفترات ، ثم بدأ مشروعه الفني المتفرد ، حيث غاص في أعماق التراث الفني في مناطق السودان المختلفة ، وإنتقى منها نماذج أخضعها لمنهج جديد في الأداء ، وشربها روح جديدة أعطت هذه الأعمال رونقاً متألقاً ، ومظهراً مختلفاً ، وطعماً زلالاً ، وروحاً نقية إستمدتها من روح عاصم الشفيفة
ثم هاجر إلي أستراليا ، هناك نال درجة الدبلوما و الماجستير (2009م) من الكونسفوار في كوينزلاند في استراليا عن التقنيات الموسيقية في التصفير و أسهمت هذه الدراسة في إعداد منهج اكاديمي للتصفير في معاهد الموسيقي في استراليا ثم أنجز مشروعه لدرجة الدكتوراة من جامعة و يسترن سيدني في استراليا و هي عن تجسير الهوة بين المسلمين و الفنون الصوتية
مقالات مشابهة
النويرى فى ضيافة باراك اوباما …
مابين رفاعة والمركب والحمار
عفيف إسماعيل: الحصاحيصا تنبت إبداعا في أستراليا..