الخرطوم – عزيز إبراهيم
عندما كان وليم إبراهيم، أحد رعايا الكنيسة الكاثوليكية بالخرطوم، يتجول بين 15 مقبرة تضم رفات والديه وإخوانه وأبناء عمومته لإحياء ذكرى عيد الأموات، كان أيضا يؤكد انتماءه لبلد هاجر إليه أسلافه من لبنان قبل أكثر من 250 عاما.
مقبرة الخرطوم للمسيحيين، والتي تضم أيضا قتلى الحرب العالمية الثانية من جيش الحلفاء وتقع في قلب العاصمة الخرطوم خلف قضبان السكة الحديدية، تضم تاريخا حافلا من الخرطوم القديمة تكوّن أثناء الحكم البريطاني للسودان.
ويقول وليم لـ”العربية.نت”: “هاجر أسلافي إلى السودان في عام 1840، وكانت الخرطوم تعج بكل الأجناس. جاء الأرمن والأقباط والإغريقيون والإيطاليون والسوريون واللبنانيون، وكانوا يعملون في البداية كموظفين في الإدارة الإنجليزية، ثم تحولوا إلى التجارة، وبعد نهاية الاستعمار استوطنوا السودان وصاروا يحملون الجنسية السودانية”، لكن الحال تغيّر ولم تعد الخرطوم بذلك التنوع الذي كان حتى سبعينيات القرن الماضي.
العجوز ميري التي تنحدر من دولة جنوب السودان وتشرف على نظافة المقبرة، لم تكن سعيدة بعودة أهلها هذا العام ومشاركتهم في القداس الذي تقيمه الكنيسة كل عام. وفي هذا السياق، قالت ميري بحسرة لـ”العربية.نت”: “هرب أهلي من القتال الدائر في الجنوب.. فروا فقط بملابسهم”. وتتساءل ميري بحزن امرأة في التسعين: “ما الذى يدور في العالم؟”.
وكان انفصال الجنوب فصلا جديدا لنهاية التنوع الهائل الذي كان يميز السودان، كما بعد الحرب المفاجئة التي نشبت منذ 10 أشهر لم يجد كثير من الجنوبيين صدرا حانيا سوى الأم القديمة، تاركين الخرطوم للعودة لجوبا.
وفي هذا السياق، تقول ميري: “كان العيد في الماضي حافلا، كانت المقبرة تكتظ بالأسر التي يأتي أفرادها بالشموع والزهور ويتحلقون حول قبور أحبابهم يتلون الصلوات ويذرفون الدموع، أما الآن فتأتي أسر قليلة على فترات متقطعة”. وتضيف ميري بحسرة: “أنظر الآن.. كم مقبرة عليها شمعة أو مبخرة؟ كلهم هاجروا في السنوات الأخيرة”.
“الخرطوم زمان”.. جملة تتردد مع فيض من الحنين لحقبة زمنية كانت الخرطوم ترفل في نعيم خاص، ساهم فيه رجال ونساء من أنحاء مختلفة من العالم، طاب لهم المقام فصاروا جزءا من النسيج الاجتماعي للبلد وجسورا للتواصل مع بلدانهم. عرف السودانيون الأرمن كصياغ مهرة، وكان الهنود يجلبون القماش والعطور، فيما كان الإغريقيون يصنعون الجبن الرومي والمضفر، أما الإيطاليون فأسسوا المقاهي والمطاعم. ومن جهتهم، تخصص الأقباط في تجارة الأدوية، فيما أقام اليمنيون حوانيت صغيرة في الأحياء وعلى ناصية الشوارع تزخر بالبضائع المتنوعة من كل أنحاء العالم.
لكن حقبة الستينيات التي شهدت في عدد من الدول الإفريقية انقلابات عسكرية مفاجئة كانت تحمل شارات النهاية لتقويض تلك الحقبة.
وفي هذا السياق، يقول وليم إبراهيم السوداني من أصول لبنانية: “كانت ثورة مايو بقيادة الرئيس جعفر النميري بداية النهاية لحقبة مزدهرة من التجارة، كانت ثورة مايو في بداياتها ذات صبغة يسارية، فشرعت لسياسة تأميم البنوك والشركات الكبيرة التي كانت مملوكة في أغلبها لأجانب، وشمل التأميم أسرا كبيرة كشركة بيطار وحجار وشركات أجنبية أخرى”.
وأسس التأميم لحقبة اقتصادية واجتماعية جديدة، حيث هربت رؤوس الأموال الأجنبية، وعاد الإيطاليون والإغريقيون لبلدانهم، وسافر الآخرون إلى المهاجر البعيدة في كندا وأستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
يذكر أن أهل الشام، أي الوافدين من سوريا ولبنان وفلسطين إلى السودان، انتموا لأسر كبيرة كمرهج ومعلوف وكافوري وبيطار، وبرزت منهم شخصيات أسست مراكز ثقافية وأكاديمية مهمة، من أمثال صموئيل عطية وادوارد عطية ونعوم شقير وهنري رياض، لكن ذلك التاريخ الحافل لم يعد الآن سوى في ذاكرة كبار السن ومدونات التاريخ وبين الجدران العالية لمقبرة المسيحيين التي لا تكاد تنتبه إليها المدينة الجديدة في غمرة زحمة السير وصرير عجلات السكة الحديدية أسفل المقبرة.
موقع ومنتديات الحصاحيصا
أنا أسمي كرم جورج إلياس نادر حفيد المرحوم موسي إلياس نادر. شكرًا لانضمام صورة لمقبرته.